الجمعة، 22 فبراير 2019

كنوز الأدب ... بقلم الأديب محمد جمال الغلاييني

" بُدِيء الشعر بملك وخُتِم بملك " .
 كلمة بليغة قالها الشاعر العظيم والوزير النادر الصاحب بن عباد ، ويقصد بها ان الشعر الراقي بُديء بامريء القيس وخُتم بابي فراس .
ابو فراس الحمداني هو الحارث بن سعيد بن حمدان التغلبي . ولد في الموصل العراق عام 320 للهجرة . قتل الحاكم والده و كان عمر ابو فراس ثلاث سنوات ، بعد محاولته الاستقلال عن الامارة الحمدانية في الموصل ولم ينجب غيره . رعته امه حق الرعاية ونشأ وترعرع في كنف ابن عمه سيف الدولة الذي كان امير الدولة الحمدانية ، زمن الدويلات في العصر العباسي ، والتي تسيطر على اجزاء من شمال سوريا والعراق وعاصمتها حلب .
كان فارسا مغوارا مقداما ، وفي نفس الوقت شاعرا وجدانيا مرهفا ؛ فاحتار النقاد في وصفه هل هو شاعر ام فارس ؟ :
يا زارع الريحان حول خيامنا
   لا تزرع الريحان لست مقيم
ما كل من دخل الهوى عرف الهوى
   ولا كل من شرب المدام نديم
ولا كل من طلب السعادة نالها
   ولا كل من قرأ الكتاب فهيم

ادناه منه سيف الدولة واحبه كثيرا واعتمده من اهم شعراء البلاط . اغدق له العطايا وولاه امارة منبج فدافع عنها دفاع الابطال وذاد عن حياضها بكل شجاعة .
كانت المعارك متواصلة بين الحمدانيين والروم ، تتأرجح بين كر وفر الى ان اجتاح الروم معظم اراضي الحمدانيين وحاصروا منبج ، فوقع ابو فراس في الاسر وهو يقاتل ببسالة في منطقة اسمها مغارة الكحل . حمله الروم الى حصن منيع يطل على الفرات وامضى فيه حوالي اربع سنوات ، انشد خلالها اجمل قصائده التي سميت بالروميات نسبة الى سجن الروم . وفيها بث لواعج قلبه وسبك وجدانياته وشوقه لأمه :
وان وراء الستر اما بكاؤها
علي وان طال الزمان طويل

ايا ام الاسير سقاك غيث
بكره منك ما لقي الاسير
ايا ام الاسير سقاك غيث
الى من بالفدا يأتي البشير
اذا ابنك سار في بر وبحر
فمن يدعو له او يستجير
وقد ذقتِ الرزايا والمنايا
ولا ولد لديك ولا عشير

وللديار التي نشأ وترعرع فيها ، مبديا عتبه الشديد على ابن عمه سيف الدولة لتأخره في افتدائه :
اقول وقد ناحت بقربي حمامة
  ايا جارتا لو تشعرين بحالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى
   ولا خطرت منك الهموم ببالي
ايا جارتا ما انصف الدهر بيننا
  تعالي اقاسمك الهموم تعالي
ايضحك مأسور وتبكي طليقة
  ويسكت محزون ويندب سالي
لقد كنت اولى منك بالدمع مقلة
   ولكن دمعي في الحوادث غالي

ومن اروع قصائده على الاطلاق قصيدة " اراك عصي الدمع " والتي انشدتها السيدة ام كلثوم منتصف القرن المنصرم وفيها : 
اراك عصي الدمع شيمتك الصبر
  اما للهوى نهي عليك ولا امر
بلى انا مشتاق وعندي لوعة
 ولكن مثلي لا يذاع له سر
معللتي بالوصل والموت دونه
  اذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
وفيت وفي بعض الوفاء مذلة
  لآنسة في الحي شيمتها الغدر
تسائلني من انت وهي عليمة
    وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى
    قتيلك ! قالت ايهم فهم كثر ؟

انسحب سيف الدولة الحمداني من عاصمته حلب امام هجمات الروم الشرسة . ولكنه عاد وجهز جيشا عرمرما  متقدما نحوهم ببسالة  وقاتلهم بضراوة ، فاسترد ما خسره من اراض واسر عددا من جند الروم ، وبادلهم باسرى المسلمين لديهم وكان من بينهم ابي فراس .
وهناك رواية اخرى تقول انه عندما يئس من فداء ابن عمه له تمكن ابو فراس من تسلق سور السجن وقفز منه الى نهر الفرات محررا نفسه .
عاد الى منبج حزينا كئيبا ، فقد ماتت امه وهي تبكيه اسيرا وتندبه وحيدا قبل ان يطلق سراحه ، وخسر من احب ايضا ، وما هي الا سنة واحدة من تحريره حتى فجع بوفاة سيف الدولة !
طمع مولى سيف الدولة بالتسلط واسمه قرغويه ، فنصب ابن سيده ابي المعالي الجويني وهو ابن اخت ابي فراس الحمداني ، اميرا على حلب . ادرك ابو فراس نوايا قرغويه فدخل حمص . ارسل له ابي المعالي جيشا بقيادة قرغويه ودارت معركة بين الفريقين قتل خلالها ابو فراس . وتشير بعض الروايات الى انه قتل غيلة بواسطة اصدقائه اثناء عزمه ملاقاة قرغويه واسترداد الحكم !
وكان ذلك عام 357 للهجرة عن عمر يناهز 36 عاما في بلدة صدد جنوب شرق حمص .

فليتك تحلو والحياة مريرة
      وليتك ترضى والانام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
       وبيني وبين العالمين خراب

وهكذا ختمت حياة شاعر عملاق وفارس مغوار مقدام . وقد احسن صنيعا ابن خالويه الذي جمع قصائده بعد مقتله لتصل الينا في قرطاس نفيس من ارقى القصائد واجود الشعر الوجداني الخالد .
محمد جمال الغلاييني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق