الجمعة، 7 ديسمبر 2018

كنوز الأدب ... بقلم الأديب محمد جمال الغلاييني

احب قيس بن الملوح العامري النجدي ابنة عمه ليلى بنت مهدي العامرية ، حبا جما يفوق الوصف .
اتسم كل منهما بجمال الطلعة ورهافة الحس ودماثة الاخلاق وهذه صفات الشعراء ،  فأمسيا عندما اينعا شاعرين متيمين .
كانا يرعيان الغنم في نفس الحي الذي ترعرعا فيه ، على الرغم من ان قيس كان يكبرها ببضع سنين .
كانت شديدة السمرة تشبه الأحباش ، وعندما شبَّت التزمت خدرها كعادة الفتيات بعد الاسلام ، وما عادا يلتقيان الا في المناسبات العامة ، فيعرض كل منهما عن الآخر مظهرا البغض له ، ولكن في حقيقة الامر يبطن له اسمى آيات الحب والهيام !
ذات يوم التقيا وجها لوجه في حفل عرس ، وكعادته حاول قيس التنحي بعيدا عنها منعا للفت الانظار . اغتنمت ليلى فرصة انشغال القوم بالفرح فدنت منه وانشدته بصوت هامس :
كلانا مظهر للناس بغضا
      وكل عند صاحبه مكين
واسرار اللواحظ ليس تخفى
    وقد تغري بذي الخطأ الظنون
وكيف يفوت هذا الناس شيء
   وما في الناس تظهره العيون

هنا تيقن انها تبادله الحب ، فاشتعل الجوى في قلبه واتقد !
تقدم الى خطبتها فرفض والدها بشدة لسببين : اولهما العداوة الشديدة بينه وبين والد قيس ، وثانيهما انشاده الشعر بإبنته ليلى . وكان من عادة العرب ان لا يزوجوا فتاة بمن تغزل بها شعرا ، لان هذا يعتبر  دليل عار عندهم لا يقبلون به ابدا .
حاول تكرار محاولته وقدم لها مهرا مغريا خمسين ناقة حمراء ، الا ان الرفض كان القرار النهائي !
 زوجوها بشاب غني على الرغم من بقاء حبهما نارا متقدة . فهام قيس على وجهه كالمجنون بين الشام ونجد والحجاز  ينظم في حبهما البائد اجمل  الاشعار : -
ولي الف وجه قد عرفت طريقه
         ولكن بلا قلب الى اين اذهب ؟!

 تداويت من ليلى بليلى عن الهوى
          كما يتداوى شارب الخمر بالخمر
الا زعمت ليلى باني لا احبها
       بلى والليالي العشر والشفع والوتر
لقد فضلت ليلى على الناس مثلما
         على الف شهر فضلت ليلة القدر
هي البدر حسنا والنساء كواكب
         فشتان ما بين الكواكب والبدر

اعد الليالي ليلة بعد ليلة
      وقد عشت دهرا لا اعد اللياليا
تراني اذا صليت يممت نحوها
      بوجهي وان كان المصلى ورائيا
اصلي فلا ادري اذا ما ذكرتها
      أإثنين صليت العشاء او ثمانيا
ما بي اشراك ولكن أحبها
  وعظم الهوى اعيا الطبيب المداويا

رأى مرة زوجها فهرع نحوه باكيا قائلا :
بربك هل ضممت اليك ليلى
     قبيل الصبح او قبلت فاها ؟

اخبروه بانها رحلت وزوجها الى العراق ، والمَّ بها مرض هناك ، فغشي عليه في الحال ، ولما أفاق أنشد قصيدة وفيها :
يقولون ليلى بالعراق مريضة
    فما لك لا تضنى وانت صديق
فان تك ليلى بالعراق مريضة
   فانني في بحر الحتوف غريق
برى حبها جسمي وقلبي ومهجتي
    فلم يبق الا اعظم وعروق
وخطوا على قبري اذا مت واكتبوا
    قتيل لحاظ مات وهو عشيق

ثم انشد قصيدة اخرى وفيها :
يقولون ليلى بالعراق مريضة
      يا ليتني كنت الطبيب المداويا
يقولون ليلى سوداء حبشية
   ولولا سواد المسك ما انباع غاليا

كان يمكث وقتا طويلا امام منزلها ويسير في نفس الدروب التي كانا يرعيان الغنم فيها ويقول :
امر على الديار ديار ليلى 
      اقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار سلبن قلبي
    ولكن حب من سكن الديارا

اخذه والده الى الحج عله ينسى حبيبته ويقبل بقضاء الله وقدره في امر زواجه بها ، ولكن دون جدوى !
فلما آب الى دياره عاد الى ما كان عليه واكثر ، وظل هائما على وجهه في البراري ينشد اجمل اشعار الحب والجوى حتى وجدوه ميتا في البيداء فوق الصخور عام 68 للهجرة ، 688 ميلادية عن عمر يناهز 47 عاما !

بلغ ليلى نبأ وفاة قيس فحزنت حزنا شديدا وانشدت :
باح مجنون عامر بهواه
    وكتمت الهوى فمت بوجدي
فاذا كان في القيامة نودي
   من قتيل الهوى تقدمت وحدي

وبعد ذلك ماتت ليلى في نفس العام الذي مات فيه حبيبها قيس عن عمر يناهز 37 عاما ودفنت قرب قبره ، ليضم الثرى قبري حبيبين بخل عليهما الناس بوصالهما وهما على قيد الحياة ، فتم وصالهما في عالم البرزخ !
واذا كان هيامهما قد جوبه حينها بالازدراء ، فان التاريخ انصفهما وخلد قصة حبهما بأحرف من ذهب على قرطاس الحب العذري المثالي .

محمد جمال الغلاييني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق