الجمعة، 14 ديسمبر 2018

كنوز الأدب ... بقلم الأديب محمد جمال الغلاييني

كنا نعتقد ان حب قيس بن الملوح لليلى العامرية هو اعظم حب في تاريخ الجوى ، ولكن في حقيقة الامر يوجد حب أعظم منه ، الا وهو حب الزوج لزوجه العاقر وهيامه بها ، عنيت به قيس لبنى .
هو قيس بن ذريح الكناني ، ولد عام 6 للهجرة - 625 للميلاد . اخ الامام الحسين عليه السلام من الرضاع . عاصر النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، ومدة طويلة من حكم معاوية بن ابي سفيان مؤسس الدولة الاموية .

خرج مرة في بعض حاجاته فمر ببني كعب . اشتد حر الشمس فقصد خيمة مستسقيا الماء . برزت اليه امرأة حسناء رخيمة الصوت وناولته قدحا فشرب وشكرها ، ولما همّ بالرحيل طلبت منه البقاء ليرتاح قليلا فقبل . حضر ابوها فرحب به واكرمه ثم غادر تاركا قلبه هناك !
كتم حبه مدة من الزمن لكنه ما استطاع الاستمرار في ذلك الكتمان فأنشد في حبها الاشعار . ثم زارهم مرة ثانية و سنحت لهما فرصة التقابل لوحدهما ، فباح كل منهما بحبه الى الآخر .
هرع قيس الى والديه مبتهجا راجيا منهما طلب يدها فرفضا لانهما كانا يرغبان في اقترانه بابنة عمه . ذهب الى الامام الحسين شاكيا له رفضهما ، فسار معه رضي الله عنه الى والد لبنى واسمه الحباب خاطبا ابنته لقيس فقبل فورا ، لكنه اشترط موافقة اهل قيس حفاظا على التقاليد .
ذهب الامام الحسين الى والد قيس وطلب منه القبول بزواج ابنه بلبنى فقبل على مضض اكراما لحفيد رسول الله ، وتم زفافهما .
قصّر قيس بحق امه وخفّف كثيرا من زيارتها اذ اصبح يمضي جل وقته مع لبنى ، فأثار ذلك حفيظة غيرتها . ومما زاد الطين بلة ان لبنى كانت عاقرا ولم تنجب ، فاغتنمت الام تلك الفرصة  وطلبت من والد قيس حث ابنه الوحيد على طلاقها حيث لا وارث سواه ، وخافت على الثروة ان تصبح كلالة ان لم ينجب ابنها .
طلبا منه ذلك فرفض بشدة ، ثم الحا عليه بقوة وقاطعاه مدة طويلة ، فرضخ اخيرا لطلبهما وطلقها اكراما لهما بعد مضي اثنتي عشرة عاما على زواجهما !
فيا ليت اني مت قبل فراقها
   وهل ترجعن فوت القضية ليت
فإن يك تهيامي بلبنى غواية
  فقد ، يا ذريح بن الحباب ، غويت
فلا انت ما امّلت فيّ رأيته
       ولا انا بلبنى والحياة حويت

صعقت لبنى من وقع هذا الخبر ، اذ كانت تردد على مسامعه دوما : لا تطعهما ، فاذا اطعتهما سوف تهلك وتهلكني معك !
فكان يؤكد لها عدم طاعته لهما . ولكنه حنث بوعده ورضخ !
عندها همت بالعودة الى ديار اهلها حزينة كئيبة .
وقالوا غدا او بعد ذاك بليلة
      فراق حبيب لم يبن وهو باني

شيَّعها بنظرات تملؤها الدموع وتبع سيرها الى ديارها مقبلا الثرى :
وما احببت ارضكم ولكن 
   اقبل اثر من وطيء الترابا
لقد لاقيت من كلف بلبنى
      بلاء ما اسيغ له الشرابا
اذا نادى المنادي باسم لبنى
    عييت فلا اطيق له جوابا

وعندما عاد الى اهله اراد النوم فما وجد اليه سبيلا :
بت والهم يا لبينى ضجيعي
  وجرت مذ نأيت عني دموعي
وتنفست اذا ذكرتك حتى زالت
  اليوم عن فؤادي ضلوعي
يا لبنى فدتك نفسي واهلي
    هل لدهر مضى لنا رجوع

علم سيدنا الحسين عليه السلام بما حل بقيس ، فذهب الى ابيه معاتبا ، وقال له : أَحُلَّ لك ان فرقت بين قيس ولبنى ؟! اما اني سمعت عمر بن الخطاب يقول : ما ابالي فرقت بين الرجل وامرأته او مشيت اليهما بالسيف .

رضخ قيس اخيرا لطلب والديه وتزوج بامرأة تحمل اسم لبنى ايضا لمدة شهر ثم فارقها ولم يطق ذلك الزواج .
علمت لبنى بذلك فطار صوابها وظنت انه غدر بها وما عاد يحبها ، فتزوجت هي ايضا برجل آخر .
هنا جن جنونه ومرض مرضا شديدا ؛
عند قيس من حب لبنى ولبنى
   داء قيس والحب صعب شديد
فاذا ما عادني العوائد يوما
    قالت العين لا ارى ما اريد
ليت لبنى تعودني ثم اقضي
      انها لا تعود فيمن يعود

شكاه اهلها الى معاوية لتشبيبه بابنتهم فأهدر دمه !
ابتعد حينها قيس عن الديار خوفا من قتله ؛
فان يحجبوها او يحل دون وصلها
   مقالة واش او وعيد امير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا
    ولن يذهبوا ما قد اجن ضميري
الى الله اشكو ما الاقي من الهوى
   ومن كرب تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشا
    وليل طويل الحزن غير قصير

ثم عاد وعفا عنه بعدما تزوجت لبنى . حضر اليه قيس ومدحه ، فرق معاوية لحاله واعطاه الامان . وتقول بعض الروايات انه ارسل بطلب زوج لبنى وعرض عليه تخييرها بينه وبين قيس .
رآه مرة زوجها هائما فحزن عليه . عاد مسرعا الى لبنى وخيرها بين البقاء معه او ان يطلقها لترجع الى قيس ، فاختارت الطلاق والرجوع الى قيس ، فطلقها .
وخلال وفائها للعدة الشرعية منتظرة بفارغ الصبر العودة الى حبيبها ماتت !
ماتت لبنى فموتها موتي
    هل ينفعن حسرة على الموت
اني سأبكي بكاء مكتئب
     قضى حياته وجدا على ميت

دهمه المرض بعد موتها واعتل اعتلالا كبيرا .  راح يهيم في الاحياء والازقة كالمجنون ، منشدا في حبه الدفين اشعارا تفطر القلوب ، الى ان وافته المنية بعدها بثلاث سنوات عن عمر يناهز 55 عاما ، عام 61 للهجرة - 680 للميلاد ، ودفن الى جانبها .

هذا هو انبل حب في التاريخ ، لانه حب زوجين عاشا معا عقدا ونيفا من الزمن ، وما برح حبهما نارا متقدة ما كانت لتخبو لولا  تجرع مرارة الموت ..

محمد جمال الغلاييني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق