روحي تطرق بابك اليوم ياجدتي ....
رغمًا عنّي أراني أُوثِقُ مخيلتي بحبالٍ قُدَّت من خيوط النسيان ..
أودّ منعها من الإنفلات..
كي لا تهربَ في غفلة من قلبي وروحي..
لكنها تفكّ الوَثاق بحرفية عالية..تغافلني .. .وتفرّ ....
تندسُّ في دهاليزَ مُوغلةٍ في القِدم .. تتسكُع في حارات قريتي الحبيبة ..
ترتطم بجدران أزقتها الضيقة...
وفجأة تتسمّر في مكانها..حين تصادفُ طيفَ جدتي الآتية من تنور جارتنا.. بقامتها الممشوقة.. وظهرها الذي لم تُحْنِه عوامل الدهر... يعتلي رأسَها أكداسٌ من الخبز الطازج.. وجهُها يبدو محمرّا كحدائقَ من شقائقِ النعمان باغَتَها الربيعُ على حين غرة... فتفتّحت دفعةً واحدة.. وهناك على خدّها الأيمن تسلّلت خصلةٌ مخضّبةٌ بالحنّاء من تحت غطاء رأسها الذي كان أبيضا قبل أن يتّشحَ بدخان التنور.. والتصقت خصلتُها بوجهها المتعرّق بطهرٍ .. حين استثارَهُ وهجُ التنور.. فبلّلَ محياها البهي ... وعلى يمينها كنتُ ( أنا) 😊 ..
طفلةٌ تُمسك بمئزر جدّتها المزركش بألوان المرح .. بشعرها المبعثرِ بعشوائيةٍ محببة كغجريةٍ حسناء.. وغمّازتيها اللتين ترويان فظاظةَ إصبعين انغمسا عمدًا في خدّيها الغضّين لحظة ولادتها.. وتنوء قدماها بحملِ حذاءٍ بلاستيكي قديم ربما يعود لاختها الكبرى والذي انتعلته على عجل كي تلحقَ بجدتها إلى التنور في غفلةٍ من أمها .. حيث كادت أصابع قدميها تتدفق بنزقٍ من مقدمته ..
دخلت جدتي إلى ساحة دارنا ذات القبة السماوية.. والتي ازدان محيطها بالحبق والمنتور وعطر الليل..
أنزلت حِملَ رأسها إلى الأرض مصحوبا بآهِ التعبِ والارتياحِ معا ...
طلبت شربةَ ماءٍ باردةً كي تُطفئَ بعضًا من قيظ الجسد.. ناولتُها الماء في كأسها المعدني البرّاق الذي كانت لاترتوي إلا حين تشرب منه .... ثم بدأت تفرشُ الخبزَ على قطعة قماشية كبيرة كي يبرد..... صوتُ حفيفِ الأرغفة المتضاحكة كوجوه الحسناوات الريفيات.. كان يُطرِبُ كل أهل البيت.. ويحرّضُ شهيتهم لبعض الخبز الساخن المغمّس بزيت الزيتون البرّاق المستخرج من خيرات أرضنا الباذخة..
فرغتْ جدّتي من فردِ الخبز.. وتوجهت إلى ساحة الدار.. غسلت وجهها بالماء البارد الزلال.. ثم دخلت غرفتها.. أمسكت مرآتها ذات الإطار المعدني المدوّر ... أجْلَسَتْها فوق وسادة الاتكاء.. نظرتُ إليها بإعجاب .. كنت أراقب نضارة وجهها الذي زاده التعبُ إشراقا ... وأراقب ذاك المشط المربّع المصنوع من العظم وهو يداعب شعرها الذي فشلت الحناء في إخفاء كامل شيبه.... والآن أراها وقد وضعت غطاء رأسها النظيف.. وقد سطع نورُ وقارِها .. فملأ تلك الغرفة الطينيّة القديمة ..
شعورٌ عظيمٌ بالفخر تملّكني حين استحضرتُ بفكري السائحِ عبارات المقربين وهم يشيرون إلى الشبه الكبير بيني وبين جدتي العظيمة..
ثم أيقظتني جدتي من شرودي
بنظرة من عينيها (كنت أفهمُها عن ظهر قلب ).. أشارت إلي أن أرافقَها إلى العين الكبيرة.. لنملأ الجرّة ماءً فراتا .. ونعودَ قبل أن يحلّ المساءُ..
في الوقت الذي تتأنّق فيه روحي..
استعدادا لإلقاء حكايات جدتي الشيّقة على مسامع حفيدي الذي بدأت يداه البريئتان تدغدغان وجهيَ شوقًا للإصغاء...
آاااااهٍ كم أنتِ مشاكسةٌ يامخيلتي...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق