دمعة على خد الياسمين ..
قصة من خمسة أجزاء..
الجزء الأول...
عاد أحمد إلى غرفته المستأجرة فوق سطح إحدى العمارات الحجرية القديمة في دمشق...بعد نهارٍ رمضانيّ شاقٍ أمضاه متنقلًا بين وزارة الخارجية ومركز الهجرة والجوازات....
كان حلم الإلتحاق بأسرته التي سبقته منذ أكثر من ثلاثة أعوام إلى أوربا يتأرجح أمام ناظريه كمشنقة معلقة في سقف وطنه الجريح .. تنوس ببطء شديد ... وهي تلعن الحرب اللعينة التي جعلت من السفر حلمًا لكل سوري مظلوم..
فتح باب الغرفة بيدين ترتجفان إرهاقًا وقيظًا وسطَ رمضاءٍ أعيت الكبير والصغير.. و أخذ يحوقل بشفتين التصقتا ظمأ على أنغام معدةٍ تتضور جوعًا ...
و كرغيف خبزٍ خرج لتوّه من تنورٍ متوهجٍ .. رمى جسده المنهك على سريره المبعثر .. بينما صور موظفي الخارجية تمرّ أمام ناظريه كنعوش تواري بداخلها بقايا حلمه في الذهاب إلى أسرته التي يكاد شوقه إليها يضاعف سنواته الستين... بقي ساعتان لأذان المغرب.. ولايزال أحمد ممدّدا في سريره محاولا صمّ أذنيه عن ثرثرة أفكاره المشاكسة.. ثم فجأة تذكر أن عليه أن ينهض ليحضّر شيئا ما ليأكله.. فتح باب الثلاجة محاولا تجنب النظر إلى قارورة الماء المثلّج التي كانت ترمقه بسخرية.. فيمجّ ماتبقّى من لعابه تحسّرا على أطلال شربةٍ ماء باردةٍ تطفئُ لهيبَ قلبه وجوارحه..
أخرج حاجته من الثلاجة.. ثم أغلق الباب بسرعة مثل طفل مذنب يفرّ بعيدا خشية تأنيب والدته على ذنب اقترفه متعمدا..
وريثما ينضح طعامه عاد للاستلقاء مجددا..
كانت شمس دمشق تتوارى خلف الأبنية الشاهقة.. وبعض من النسمات اللطيفة بدأت تتسلل خلسة من بين خيوط الشمس لتهدي إلى جسده جرعة منعشة تدغدغ جبينه.. وتبرّد خصلات شعره المبتلة بالعرق.. وتجلب بعض السكينة إلى قلبه المثقل بالهموم..
ثمة اطمئنان تسلل إلى قلبه حين جاءه إشعار رسالة من تلك المرأة التي أحبّها بصدق حين وجد نفسه وحيدا في عالم اتسم بالخراب والخذلان .. أمسك جواله بسرعة.. فك رمز الشاشة بمهارة معلّمٍ يشاهد وظيفة أحد طلابه النجباء .. بينما إبتسامة الإعجاب تملأ وجهه استبشارا...
إنها هي... تلك المرأة تكاد تكون الحقيقة الوحيدة التي لايعتريها الزيف في حياته .... كانت كلماتها المحملة بجرعات من الصبر تعبّد الطريق أمام روحه التائهة.. وترمّم ما أتلفته سنون القهر في قلبه الكسير..
تلك السيدة كان يجزم أنها أتته من عالم الملائكة.. هربت في غفلة من أفلاطون من فوق أسوار مدينته الفاضلة... سيدة لاتحمل في قلبها سوى الطهر والعفاف..
تمنّى كثيرًا لو عاد به الزمان ثلاثين عامًا إلى الوراء.. كي يلتقيها وهي لاتزال في صفوة شبابها.. وقمة عنفوانها..
وحتى الآن لايزال يراها قلعة منيعة من الصمود والصبر..
كان حديثُها كفيلًا باجتثاث ظمئه.. ومدّه ببرد اليقين..
تنبّه فجأة لرائحة الطعام الناضج تلامس عتبات الشم لديه.. وتزيد في تحريض شهيته للطعام..
قفز برشاقة قبيل أذان المغرب بدقائق مثل غزال دبّت فيه الحيوية والنشاط .. أضاف إلى طاولته الصغيرة.. شراب( السوس ) الذي يعتبر عنصرا أساسيا في مائدة إفطار أهل الشام.. بالإضافة إلى قارورة الماء المتعرّقة نزقًا من فرط برودتها .. والتي قرر أن يقتصّ منها شرّ اقتصاص..
وماهي إلا لحظات.. حتى بدأت مآذن الشام تصدح بأذان المغرب من كل ضواحيها في تمازجٍ صوتيّ مبهرٍ تقشعرّ له الابدان..
فتح أحمد كفيه متضرعًا إلى الله بدعوتين نقيضتين.. ربّاه اجمعني بأولادي في أقرب وقت.. أما الدعوة الثانية فكانت تنسف الأولى وبكل إصرار: ربّاه لاتحرم أذنيّ سماع مآذن الشام!!
تناول أحمد كأس الماء وسالت من عينيه دمعتان عصيتان على التفسير...
للقصة تتمة..
فادية حسون..
16/7/2018
~~~~~~~~~~~
دمعة على خد الياسمين...
الجزء الثاني ....
كانت من عادات أحمد الرمضانية أن يسهر حتى وقت السحر.. منفردا في غرفته جالسا وراء شاشة جواله ليتابع أخبار العالم وليتواصل مع أحبته وأصدقائه... وحين يشعر بضيق يعتلي صدره.. كانت تتبادر إلى ذهنه الآية الكريمة( ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب ) .. فينهض مشمّرًا عن ساعديه ليتوضأ .. ثم يفتح كتاب الله ويتلو ماتيسّر له من آي الذكر الحكيم.. ثمة ارتياح نفسي يسارع إلى اقتلاع ضيقه من الجذور.. فيستضيف صدرُه سكينة الكائنات كلها.. وتصغر كل المعضلات في حضرة نسائم الإرتياح الروحي الذي أحدثته حلاوة القرآن في قلبه المتخبّط.. كانت ملامح طفله الصغير ذي الأعوام الثمانية تتسيد قائمة الشوق لديه من بين أولاده الست ... فكان كل الوقت منهمكا في تخزين فيض من الأبوّة التي لم يرتوِ صغيره منها بعد ..ويدخرها ليغرقه بها حين يلقاه.. بالإضافة إلى شوقه الكبير إلى رفيقة دربه التي أرهقها غياب الزوج والحبيب.. فكانت تضيع بين ازدواجية الدورين.. أبٍ وأمٍّ معًا.. لأولاد انغمسوا في المجتمع الأوربي كغواص غرّ لا يتقن فن الغوص...
استسلم أحمد لنومٍ عميق بعد أن أدّى صلاة الفجر.. وأسبل جفنيه مطبقًا على حلمه وهاجسه العظيم....
لكن صورة تلك المرأة الفاضلة التي أحبها كحبّ الغريق لقشة النجاة.. لاتزال تتسيد شغاف الروح...
كانت الساعة التاسعة صباحًا حين رنّ جرسُ هاتفه النقال .. وبدون أن يفتح عينيه خشية أن يهرب نعاسه حاول أن يتلمس جواله بجانبه.. ثم وضع نظارته على عينيه اللتين يعلوهما حاجبان مقطّبان وكأنه يستعد لزجرِ المتّصل أيّا كان... ثم مالبث أن نهض بسرعة جواد أصيل حين تراءى أمام عينيه رقمٌ عائدٌ لوزارة الخارجية..
وكاد يقف قلبه حين أبلغه موظف الخارجية أن سفره أصبح مؤكّدا خلال أسبوع من الآن...
نهض أحمد على عجل.. ارتدى ملابسه.. نظر نظرة عابرة إلى مرآة الجدار.. رأى وجهًا لرجلٍ ستّيني يبتسمُ ابتسامةً شاحبةً مصحوبة بدمعة حارقة..
ترافق نزوله على درج العمارة مع وقع جنائزي تعزفه روحه باستسلام مطلق... قادته قدماه رغما عنه إلى شوراع دمشق القديمة.. شعر برغبة في تخزين ماتيسر له من عبق تلك الجدران الحجرية العابقة بالأصالة.. وكان قرع أكواب بائع السوس النحاسية يوقظ في قلبه ألف رغبة للبكاء بصوت مزمجرٍ... يرتعد من هوله قاسيون .. ويتحرك جواد صلاح الدين من فوق ضريحه الشامخ قرابة سوق الحميدية... ويذعر ( بكداش ) فتتسارع وتيرة ضرباته على آنية الآيس كريم الشامي العريق.. تابع أحمد سيره في أزقة دمشق القديمة بعد أن أراح نفسه المضطربة بأداء فريضة العصر في الجامع الأموي الكبير.. والتقط لنفسه صورا مع بعض عرائش الياسمين التي ازدانت بها شرفات الشام.. رأى من بعيد نعشا محمولا على الاكتاف في موكب جنائزي مهيب.. شعر بغبطة مفاجئة لذاك الضريح الراقد داخل النعش.. إذ أنه سيدفن في أرض الشام.... أما هو... فقد أنتابه شعور مؤلم بأن تربة الشام قد لفظته إلى دول اللجوء الباردة.. حيث لا أهل.. لا أصدقاء.. ولا موكبٍ كهذا.. حتى الموت في أرض الشام أصبح أقصى أمنياته... أفاق من شروده على رنة جواله.. إنه اتصال صوري من إبنه الصغير حسام.. فتح الكاميرا الامامية.. بعد أن جفف عبراته الحارقة.. ورسم ابتسامة مقنّعة على محياه البائس.. كادت العائلة تطير فرحا حين علمت باقتراب لقائها به... اختصر حديثه كعادته القديمة.. وأغلق جواله .. ثم تابع سيره عائدا إلى البيت .. وفي قلبه كمٌّ هائل من المشاعر المختلطة والتي لم يجد إلى تنضيدها من سبيل..
كان جلّ تفكيره مركزا على نقطة ثابتة.. وهي كيف سيكون وقع النبأ على تلك المرأة التي أحبّ بالأمس ومايزال .. والتي أقسمت له مرارا أنها ستقطع كل تواصل معه حين يسافر إلى أسرته..
كان يفكر في عظمة نبلها حين آثرت الابتعاد عنه كي يتفرغ لحب أسرته التي غادرته منذ أعوام .. وبنفس الوقت كان قلبه يتألم على مغادرتها وتركها تجترّ مرارة البعد والهجران .. شعر باحتقارٍ لذاته.. وقلبه الانهزامي الضعيف.. تمنى لو يجلد نفسه ألف جلدة.. كي يقتص من روحه الخائنة ذات الازدواجية الرهيبة..
وكمسنّ هرم صعد الدرج متمسكا بالحدائد الصدئة على الطرفين.. تبادرت إلى ذهنه صور المصاعد الكهربائية التي تصعد وتهبط بأناقة مفرطة في العمارات الحديثة.. شعر بكراهية عجيبة تجاه التقنيات المعاصرة التي تنكّرت لعمارته القديمة الشاهقة والتي أصبحت تعاف لحن لهاثه عند كل صعود....
أدار مزلاج الباب الخشبي بيديه الكليلتين.. بعد أن نخرت روائحُ الطعامِ المختلفةِ في طوابق المبنى القسمَ المسؤولَ عن حاسةِ الشّمّ في مخه المثقل بالتفكير..
لفتت انتباهه تلك الياسمينة اليتيمة المزروعة على شرفة غرفته.. والتي أحنت عنقها ذبولا في حضرة الإهمال الشديد .. شعر بأنانية بعض الصائمين الذين يعتقدون أن الورود يمكنها أيضا أن تصوم عن الماء.. هرع إلى صنبور الماء وملأ وعاءً وصبّه دفعة واحدة في الأصيص كمطرٍ صيفي مباغتٍ.. وما هي إلا دقائق حتى عادت الياسمينة تتمايل امتنانا أمام ناظريه.. ابتسم أحمد كجراح ماهر استطاع أن ينقذ حياة مريض شارف على الموت.. وتنفس الصعداء..
أزاح بعض الاشياء عن سريره المكتظ بفوضاه ... ثم استلقى غير مكترثٍ بخلع حذائه من قدميه... و تنهد بعمق وهو يضيف همّا جديدا إلى قائمة همومه لم يكن في الحسبان أبدا.. وهو: هل ستموت تلك الياسمية بعد مغادرته أرض الشام..؟؟
للقصة بقية....
فادية حسون...
17/7/2018
قصة من خمسة أجزاء..
الجزء الأول...
عاد أحمد إلى غرفته المستأجرة فوق سطح إحدى العمارات الحجرية القديمة في دمشق...بعد نهارٍ رمضانيّ شاقٍ أمضاه متنقلًا بين وزارة الخارجية ومركز الهجرة والجوازات....
كان حلم الإلتحاق بأسرته التي سبقته منذ أكثر من ثلاثة أعوام إلى أوربا يتأرجح أمام ناظريه كمشنقة معلقة في سقف وطنه الجريح .. تنوس ببطء شديد ... وهي تلعن الحرب اللعينة التي جعلت من السفر حلمًا لكل سوري مظلوم..
فتح باب الغرفة بيدين ترتجفان إرهاقًا وقيظًا وسطَ رمضاءٍ أعيت الكبير والصغير.. و أخذ يحوقل بشفتين التصقتا ظمأ على أنغام معدةٍ تتضور جوعًا ...
و كرغيف خبزٍ خرج لتوّه من تنورٍ متوهجٍ .. رمى جسده المنهك على سريره المبعثر .. بينما صور موظفي الخارجية تمرّ أمام ناظريه كنعوش تواري بداخلها بقايا حلمه في الذهاب إلى أسرته التي يكاد شوقه إليها يضاعف سنواته الستين... بقي ساعتان لأذان المغرب.. ولايزال أحمد ممدّدا في سريره محاولا صمّ أذنيه عن ثرثرة أفكاره المشاكسة.. ثم فجأة تذكر أن عليه أن ينهض ليحضّر شيئا ما ليأكله.. فتح باب الثلاجة محاولا تجنب النظر إلى قارورة الماء المثلّج التي كانت ترمقه بسخرية.. فيمجّ ماتبقّى من لعابه تحسّرا على أطلال شربةٍ ماء باردةٍ تطفئُ لهيبَ قلبه وجوارحه..
أخرج حاجته من الثلاجة.. ثم أغلق الباب بسرعة مثل طفل مذنب يفرّ بعيدا خشية تأنيب والدته على ذنب اقترفه متعمدا..
وريثما ينضح طعامه عاد للاستلقاء مجددا..
كانت شمس دمشق تتوارى خلف الأبنية الشاهقة.. وبعض من النسمات اللطيفة بدأت تتسلل خلسة من بين خيوط الشمس لتهدي إلى جسده جرعة منعشة تدغدغ جبينه.. وتبرّد خصلات شعره المبتلة بالعرق.. وتجلب بعض السكينة إلى قلبه المثقل بالهموم..
ثمة اطمئنان تسلل إلى قلبه حين جاءه إشعار رسالة من تلك المرأة التي أحبّها بصدق حين وجد نفسه وحيدا في عالم اتسم بالخراب والخذلان .. أمسك جواله بسرعة.. فك رمز الشاشة بمهارة معلّمٍ يشاهد وظيفة أحد طلابه النجباء .. بينما إبتسامة الإعجاب تملأ وجهه استبشارا...
إنها هي... تلك المرأة تكاد تكون الحقيقة الوحيدة التي لايعتريها الزيف في حياته .... كانت كلماتها المحملة بجرعات من الصبر تعبّد الطريق أمام روحه التائهة.. وترمّم ما أتلفته سنون القهر في قلبه الكسير..
تلك السيدة كان يجزم أنها أتته من عالم الملائكة.. هربت في غفلة من أفلاطون من فوق أسوار مدينته الفاضلة... سيدة لاتحمل في قلبها سوى الطهر والعفاف..
تمنّى كثيرًا لو عاد به الزمان ثلاثين عامًا إلى الوراء.. كي يلتقيها وهي لاتزال في صفوة شبابها.. وقمة عنفوانها..
وحتى الآن لايزال يراها قلعة منيعة من الصمود والصبر..
كان حديثُها كفيلًا باجتثاث ظمئه.. ومدّه ببرد اليقين..
تنبّه فجأة لرائحة الطعام الناضج تلامس عتبات الشم لديه.. وتزيد في تحريض شهيته للطعام..
قفز برشاقة قبيل أذان المغرب بدقائق مثل غزال دبّت فيه الحيوية والنشاط .. أضاف إلى طاولته الصغيرة.. شراب( السوس ) الذي يعتبر عنصرا أساسيا في مائدة إفطار أهل الشام.. بالإضافة إلى قارورة الماء المتعرّقة نزقًا من فرط برودتها .. والتي قرر أن يقتصّ منها شرّ اقتصاص..
وماهي إلا لحظات.. حتى بدأت مآذن الشام تصدح بأذان المغرب من كل ضواحيها في تمازجٍ صوتيّ مبهرٍ تقشعرّ له الابدان..
فتح أحمد كفيه متضرعًا إلى الله بدعوتين نقيضتين.. ربّاه اجمعني بأولادي في أقرب وقت.. أما الدعوة الثانية فكانت تنسف الأولى وبكل إصرار: ربّاه لاتحرم أذنيّ سماع مآذن الشام!!
تناول أحمد كأس الماء وسالت من عينيه دمعتان عصيتان على التفسير...
للقصة تتمة..
فادية حسون..
16/7/2018
~~~~~~~~~~~
دمعة على خد الياسمين...
الجزء الثاني ....
كانت من عادات أحمد الرمضانية أن يسهر حتى وقت السحر.. منفردا في غرفته جالسا وراء شاشة جواله ليتابع أخبار العالم وليتواصل مع أحبته وأصدقائه... وحين يشعر بضيق يعتلي صدره.. كانت تتبادر إلى ذهنه الآية الكريمة( ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب ) .. فينهض مشمّرًا عن ساعديه ليتوضأ .. ثم يفتح كتاب الله ويتلو ماتيسّر له من آي الذكر الحكيم.. ثمة ارتياح نفسي يسارع إلى اقتلاع ضيقه من الجذور.. فيستضيف صدرُه سكينة الكائنات كلها.. وتصغر كل المعضلات في حضرة نسائم الإرتياح الروحي الذي أحدثته حلاوة القرآن في قلبه المتخبّط.. كانت ملامح طفله الصغير ذي الأعوام الثمانية تتسيد قائمة الشوق لديه من بين أولاده الست ... فكان كل الوقت منهمكا في تخزين فيض من الأبوّة التي لم يرتوِ صغيره منها بعد ..ويدخرها ليغرقه بها حين يلقاه.. بالإضافة إلى شوقه الكبير إلى رفيقة دربه التي أرهقها غياب الزوج والحبيب.. فكانت تضيع بين ازدواجية الدورين.. أبٍ وأمٍّ معًا.. لأولاد انغمسوا في المجتمع الأوربي كغواص غرّ لا يتقن فن الغوص...
استسلم أحمد لنومٍ عميق بعد أن أدّى صلاة الفجر.. وأسبل جفنيه مطبقًا على حلمه وهاجسه العظيم....
لكن صورة تلك المرأة الفاضلة التي أحبها كحبّ الغريق لقشة النجاة.. لاتزال تتسيد شغاف الروح...
كانت الساعة التاسعة صباحًا حين رنّ جرسُ هاتفه النقال .. وبدون أن يفتح عينيه خشية أن يهرب نعاسه حاول أن يتلمس جواله بجانبه.. ثم وضع نظارته على عينيه اللتين يعلوهما حاجبان مقطّبان وكأنه يستعد لزجرِ المتّصل أيّا كان... ثم مالبث أن نهض بسرعة جواد أصيل حين تراءى أمام عينيه رقمٌ عائدٌ لوزارة الخارجية..
وكاد يقف قلبه حين أبلغه موظف الخارجية أن سفره أصبح مؤكّدا خلال أسبوع من الآن...
نهض أحمد على عجل.. ارتدى ملابسه.. نظر نظرة عابرة إلى مرآة الجدار.. رأى وجهًا لرجلٍ ستّيني يبتسمُ ابتسامةً شاحبةً مصحوبة بدمعة حارقة..
ترافق نزوله على درج العمارة مع وقع جنائزي تعزفه روحه باستسلام مطلق... قادته قدماه رغما عنه إلى شوراع دمشق القديمة.. شعر برغبة في تخزين ماتيسر له من عبق تلك الجدران الحجرية العابقة بالأصالة.. وكان قرع أكواب بائع السوس النحاسية يوقظ في قلبه ألف رغبة للبكاء بصوت مزمجرٍ... يرتعد من هوله قاسيون .. ويتحرك جواد صلاح الدين من فوق ضريحه الشامخ قرابة سوق الحميدية... ويذعر ( بكداش ) فتتسارع وتيرة ضرباته على آنية الآيس كريم الشامي العريق.. تابع أحمد سيره في أزقة دمشق القديمة بعد أن أراح نفسه المضطربة بأداء فريضة العصر في الجامع الأموي الكبير.. والتقط لنفسه صورا مع بعض عرائش الياسمين التي ازدانت بها شرفات الشام.. رأى من بعيد نعشا محمولا على الاكتاف في موكب جنائزي مهيب.. شعر بغبطة مفاجئة لذاك الضريح الراقد داخل النعش.. إذ أنه سيدفن في أرض الشام.... أما هو... فقد أنتابه شعور مؤلم بأن تربة الشام قد لفظته إلى دول اللجوء الباردة.. حيث لا أهل.. لا أصدقاء.. ولا موكبٍ كهذا.. حتى الموت في أرض الشام أصبح أقصى أمنياته... أفاق من شروده على رنة جواله.. إنه اتصال صوري من إبنه الصغير حسام.. فتح الكاميرا الامامية.. بعد أن جفف عبراته الحارقة.. ورسم ابتسامة مقنّعة على محياه البائس.. كادت العائلة تطير فرحا حين علمت باقتراب لقائها به... اختصر حديثه كعادته القديمة.. وأغلق جواله .. ثم تابع سيره عائدا إلى البيت .. وفي قلبه كمٌّ هائل من المشاعر المختلطة والتي لم يجد إلى تنضيدها من سبيل..
كان جلّ تفكيره مركزا على نقطة ثابتة.. وهي كيف سيكون وقع النبأ على تلك المرأة التي أحبّ بالأمس ومايزال .. والتي أقسمت له مرارا أنها ستقطع كل تواصل معه حين يسافر إلى أسرته..
كان يفكر في عظمة نبلها حين آثرت الابتعاد عنه كي يتفرغ لحب أسرته التي غادرته منذ أعوام .. وبنفس الوقت كان قلبه يتألم على مغادرتها وتركها تجترّ مرارة البعد والهجران .. شعر باحتقارٍ لذاته.. وقلبه الانهزامي الضعيف.. تمنى لو يجلد نفسه ألف جلدة.. كي يقتص من روحه الخائنة ذات الازدواجية الرهيبة..
وكمسنّ هرم صعد الدرج متمسكا بالحدائد الصدئة على الطرفين.. تبادرت إلى ذهنه صور المصاعد الكهربائية التي تصعد وتهبط بأناقة مفرطة في العمارات الحديثة.. شعر بكراهية عجيبة تجاه التقنيات المعاصرة التي تنكّرت لعمارته القديمة الشاهقة والتي أصبحت تعاف لحن لهاثه عند كل صعود....
أدار مزلاج الباب الخشبي بيديه الكليلتين.. بعد أن نخرت روائحُ الطعامِ المختلفةِ في طوابق المبنى القسمَ المسؤولَ عن حاسةِ الشّمّ في مخه المثقل بالتفكير..
لفتت انتباهه تلك الياسمينة اليتيمة المزروعة على شرفة غرفته.. والتي أحنت عنقها ذبولا في حضرة الإهمال الشديد .. شعر بأنانية بعض الصائمين الذين يعتقدون أن الورود يمكنها أيضا أن تصوم عن الماء.. هرع إلى صنبور الماء وملأ وعاءً وصبّه دفعة واحدة في الأصيص كمطرٍ صيفي مباغتٍ.. وما هي إلا دقائق حتى عادت الياسمينة تتمايل امتنانا أمام ناظريه.. ابتسم أحمد كجراح ماهر استطاع أن ينقذ حياة مريض شارف على الموت.. وتنفس الصعداء..
أزاح بعض الاشياء عن سريره المكتظ بفوضاه ... ثم استلقى غير مكترثٍ بخلع حذائه من قدميه... و تنهد بعمق وهو يضيف همّا جديدا إلى قائمة همومه لم يكن في الحسبان أبدا.. وهو: هل ستموت تلك الياسمية بعد مغادرته أرض الشام..؟؟
للقصة بقية....
فادية حسون...
17/7/2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق