الثلاثاء، 17 ديسمبر 2019

الإنتفاضة ..ملامح وأبعاد ... بقلم الأستاذ المتألق عباس شعبان

الإنتفاضة ..ملامح وأبعاد

سنُفهم الصخر ...إن لم يفهم البشرُ
إن الشعوب إذا هبٌت ستنتصر
مهما صنعتم من النيران نخمدها
ألم تروا أننا من لفحها سُمُرُ !!
فمهما قضيتم ..ولو قضيتم على الثوار كُلهُمُ
تمرٌد الشيخ والعكاز والحجرُ
هذه الأبيات قيلت في رثاء أحد المجاهدين الفلسطينيين منذ سنوات طويلة ..
وما يطرحه الشاعر برؤاه الملهمة ينطبق تماما على ما جرى ..وما هو يجري الآن.. ويجسده بصدق الشعب الفلسطيني عبر إنتفاضته المباركة ..التي حيٌرت عقول الكثيرين أصدقاء وأعداء وضلٌوا الطريق في تحليلاتهم
كل على هواه لمعناها وأسبابها وبعد مضي سنتين على بدء الإنتفاضة في ٨ ديسمبر ١٩٨٧
(أي قبل كتابة هذا المقال بسنتين) أثبتت خطأ تحليلاتهم جميعا ..وقد تطورت تطورا تصاعديا في أحداثها نوعا وكماً بعكس كل التوقعات بأنها لن تدوم ..وستخبو بعد فترة وجيزة لن تتجاوز الأشهر ..
ولكن هذه الإنتفاضة ومن خلال إستمرارها كل هذه المدة متجاوزة كل التكهنات..مسببة الأرق للعدو الصهيوني وعملائه..
أنها نتيجة تراكمات نضالية ومعاناة طويلة عاشها الشعب الفلسطيني في مختلف مراحل ثورته وفي جميع أماكن تواجده ..وبرهنت أنها لا يمكن أن تكون وليدة حادثة معينة أو سبب معين ..
كما أنها ليست بداية نضال ومفتاح هذا الشعب ولن تكون نهاية نضاله المستمر حتى تحرير كامل ترابه الوطني على أرض فلسطين التاريخية .
ولكي نفهم ونعي جيدا معنى الإنتفاضة وأبعادها..لا بد لنا أن نمر بإيجاز على الظروف التي كان يعيشها الشعب الفلسطيني والأحداث المهمة التي حدثت قبل إنبلاج فجر الإنتفاضة الشعبية العارمة والتي نوضحها ونوجزها كما يلي:
اولا:كانت الثورة الفلسطينية تجد متنفسا لها في لبنان بعدما تم تنظيم وجودها المسلح الذي نظمته إتفاقية القاهرة بين الحكومة اللبنانية وبين منظمة التحرير الفلسطينية في ٣/١١/١٩٦٩ .
وهذا ما لم يعجب العدو الصهيوني واعتبر الوجود المسلح خطرا محدقا به ولا قد من إجتثاث البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية والمتمثلة في المخيمات الفلسطينية في لبنان ..
وجاء إجتياح لبنان عام ١٩٨٢ وصمد الشعب الفلسطيني بمؤازرة الشعب اللبناني لمدة ٣ أشهر أخرجت على أثرها القوات المسلحة الفلسطينية من بيروت كمرحلة أولى ومن باقي الأراضي اللبنانية كمرحلة ثانية..وتشتتت في المنافي فاقدة آخر موقع لها على تماس مع العدو الصهيوني..
ولا ننسى ما تلى ذلك من محاولات لشق الصف الفلسطيني وطني هويته السياسية والنضالية.
ويعتبر هذا الوضع المأساوي الذي آلت إليه الثورة الفلسطينية خارج الوطن ..من أهم الأسباب التي جاءًت بالإنتفاضة الجبارة ..لتقول فلسطين لا تستسلم ولن تستسلم ..
ثانياً: تعمق الإحساس في فلسطين المحتلة وشعبها بعدم وجود خيار عسكري عربي يرفع عن كاهلهم نير الإحتلال وكذلك عدم وجود أمل في حل سياسي قريب يؤدي نفس الغرض...ولذلك كان لا بد من تسلم زمام المبادرة بأنفسهم لتحقيق أهدافهم بالتحرر ..
فما حكٌ جسمك مثل ظفرُك...
ثالثا: عشرون عاما من الإحتلال البغيض منذ نكسة ١٩٦٧ التي أودت بالبقية الباقية من أرض فلسطين التاريخية والمعاناة الشديدة التي تجلٌت بما يلي :
_تدهور الأوضاع الصحية في الضفة الغربية وقطاع غزة وافتقاد المستشفيات للأجهزة والكوادر الطبية والفنية.
_ الإبعادات المستمرة لمئات من أبناء الشعب الفلسطيني وحرمانهم من حقهم الطبيعي في العيش على أرض وطنهم..
_مصادرات الأراضي والتوسع الإستيطاني السرطاني المستمر.
_الإعتقال العشوائي الجماعي بعد كل عملية فدائية للفلسطينيين المتواجدين في أماكن العمليات.
_ المعاملة المهينة وغير الإنسانية للشعب الفلسطيني .
_الشعور بضرورة إجلاء هذا الدخيلالذي يصادر سيادته عل أرضه..
رابعا: من الأسباب المهمة جدا أيضا (من وجهة نظري)..العمليات البطولية التي قام بها أبطال الثورة الفلسطينية برا وبحرا وجوا والتي من أبرزها عملية قبية في مستوطنة( كريات شمونة) ..الخالصة في ٦/١١/١٩٨٧
والتي نفذها فدائي فلسطيني بواسطة طائرة شراعية حيث اقتحم معسكرا للعدو الصهيوني وقتل وجرح عددا كبيرا من الجنود والضباط(١٣باعتراف العدو) وهذه العملية عدا أنها أصابت المسؤولين الصهاينة الصاعقة حقيقية ..فإنها ألهبت نفوس الشباب في الأرض المحتلة وأعطتهم الثقة بإمكانية ضرب جيش الإحتلال الذي خسر معركة ضد بطل فلسطيني واحد ..وبدأ الشباب بمهاجمة دوريات العدو بالحجارة والمولوتوف والقضبان الحديدية وبما تيسر لهم من وسائل الدفاع عن النفس.
خامسا: الغارات الوحشية للطيران الصهيوني على مخيمات لبنان وقتل النساء والأطفال والشيوخ تحت شعار الدفاع عن أمنها.
سادسا: إتخاذ شارون اللعين منزلا له في القدس الشرقية مما استفز المواطنين الفلسطينيين وقاموا بالمظاهرات وعلى رأسها الشيخ سعد الدين العلمي (رئيس الهيئة الإسلامية العليا)إلى المنزل مطالبين شارون بالرحيل عن القدس مما اضطرت لوضع عدد كبير من الجنود لحمايته ..
سابعا: حادث غزة الشهير والذي يعتبر الشرارة ..حيث صدم مستوطن صهيوني بشاحنته عن عمد سيارتين محملتين بالفلسطينيين واستشهد فبها أربعة..مما أدى إلى إندلاع مظاهرات عنيفة إنتهت إلى جميع أنحاء فلسطين فيما بعد...
أحداث كثيرة جعلت الغليان في الأرض المحتلة يتصاعد ويتسع في كل الإتجاهات إلى رفح جنوبا وإلى جنين شمالا ..وانضمام مواطني فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ إلى إخوانهم وإعلانهم لكثير من الإضرابات ..كانت القشة التي قصمت ظهر المسؤولين الصهاينة وأفقدتهم صوابهم وجعلتهم يدلون بتصريحات عنصرية أقلها الإبعاد والإعتقال الإداري ..
كل هذه الظروف والإحداث وغيرها كثير لم يذكر ..كانت بمثابة فترة الحمل التي أنجبت هذه الإنتفاضة المباركة والتي قامت على أكتاف الشباب الذين ولدوا في ظل الإحتلال الذي كان يراهن على نسيانهم لوطنهم..وقد انطبق القول على هذه الإنتفاضة بالفعل أنها ثورة الشعب بجميع فئاته وأجياله..
وكسرت حاجز الرهبة من جيش الإحتلال الذي لا يقهر..
وانبثق عنها مزيد من التضامن العربي ..والإعتراف العالمي بعدالة القضية الفلسطينية وأدخلتها إلى كل بيت..
وحوٌلا الأراضي الفلسطينية من مصدر ربح صافي يدر سنويا ١.٨مليار دولار
إلى عبء إقتصادي يكلف خزينة العدو ما يزيد عن ٥ملايين دولار يوميا ..
كما عجٌلت بصدور إعلان دولة فلسطين المستقلة في ٥/١١/١٩٨٨
بقلمي
عباس شعبان
هذه المقالة نشرت في جريدتي العرب القطرية ..والخليج الشارقية بتاريخ ٣/١٢/١٩٨٩

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق