الجمعة، 29 نوفمبر 2019

صباريات في دار المسنين/ الجزء الثاني ... بقلم الشاعرة المتألقة امل الياسري

صباريات في دار المسنين/ الجزء الثاني

بعد أن غادرتُ قسم النخيل، مع إشارة إحدى نزيلاته، لزيارة قسم الصباريات في الجانب الآخر من الدار، أخذ الحديث يتزاحم بداخلي، لأنني أعرف أن الصباريات زهور شوكية، تقاوم الأحوال المناخية الجافة والظروف الصعبة، فبادرتني إحداهن بالقول وتدعى (صبار الشمعة): ما معنى القيمومة فأجبتها: هي مأخوذة من الأية الكريمة: "الرجال قوامون على النساء" ثم جعلتني أفكر كثيراً في حقيقة القيمومة، اليوم تحديداً كيف أصفها لترتاح هذه الإنسانة، فقبل أن تكون زوجة هي في الأصل كائن حي، يتحرك، ويتنفس، ويتغذى، وأضفتُ لها: القيمومة هي وجود إدارة صحية، وتوزيع صحيح للأدوار، ونظام أسري ناجح ومؤثر في الأسرة، القيمومة لا تعني تحويل أعضاء الأسرة الى عبيد، فلكل فرد مساحته الخاصة التي هي من حقه أن يتحرك فيها، أما أسباب إختيار البارىء عز وجل لقيمومة الرجل، فتعود الى طبيعة الرجل العقلانية والجسدية، والقدرات، والمؤهلات، والإلتزام المالي المطلوب للأسرة، فالقضية إذن ليست تعسفاً أو قمعاً، بقدر ما هي مسؤولية، وفجأة نظرتُ لوجه صاحبة السؤال فوجدته يستشيط غضباً، فصرختْ: أنا كل ما ذكرتِ عنه! 

قالت لي (ماميلاريا): زوجي كالطفل يحب إرتداء أحذية الكبار، وخطواته غير مدروسة، لذا يتعرقل في أول سيره، وهو مقتنع بأن ضجيجه يثير مسامع بقية أفراد أسرته، مدعياً أنه قائد حي في البيت ولا غير سواه، ثم وذكرت (أكينو كاكتس) أن زوجها يمتلك خزيناً عظيماً من الحكمة، لكنه لا يستطيع تجاوز عقدة التردد والخوف التي عاشها بسبب أمه، فيحيط بجوانب حياته مخافة السقوط، لذا يحسن الصمت الأنيق.

أما الأخرى التي تدعى (برايوفيلم) فكانت تصرخ قائلة: هل من المعقول أن يكون الكلام السيء مزاحاً؟ لسان زوجي خال من الحراس؛ ليحفظوا براعمه من الخلل والزلل المشين لي ولشخصه مع الأسف، علماً بأنه كثيراً ما كان يهتف، أن سبب الفساد في المجتمع هو حصائد ألسنة الناس، ويتناسى أن زيادة نسبة ثاني أوكسيد الحماقة، وإرتفاع درجات القسوة في قلبه، جعلت من لسانه سيفاً يمزق قلبي يومياً.

إستأذنتني زهرة تدعى (أوبنتيا) لتقوم منتفضة: هل تدرين يا عزيزتي، زوجي مؤمن أن الانترنت يقرب له بمَنْ هي بعيدة عنه، لكنه غير مؤمن بأن الله اقرب إليه من حبل الوريد! وهو يلهث إذا ما رن جواله ويتلثعم بقوله: ليس الآن أنا مع العائلة! وأحياناً أخرى يعرض نفسه للإنهيار المخجل، فلا يبلغ هدفه الكبير ولا غايته الدنيئة.

وقالت (سيسل): زوجي يتهمني بأنني كثيرة النوم، مع أنني لست نائمة في الأصل، فأنا أقوم بواجباتي البيتية على أكمل وجه، لكني أبقى مستقيظة طوال الليل أعدُّ جروحي بعد أن ينام الجميع، فأشعر بالقلق المستمر وكأنني في ساحة حرب ملغمة، ثم قالت: "اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون لاهية قلوبها" فقلتُ لها بما كان زوجكِ لاهٍ؟ قالت: أشغله العنف معي، ولم ينشغل بما يحل بجسدي، فقد كان هناك شيء يتكسر ويتحطم أكثر من الأضلاع والعظام، ولا يمكن ترميمه على الاطلاق إنها مشاعري!

بكت (بيروا) وقالت: أنا في بيتي أبدو كالصنم تجتمع العائلة حوله، لأنهم يتوخون تقديم الخدمة، وينشدون القصائد أمامي لأمنحهم حالي ومالي فقط لا غير، ولا يلتمسون لي عذراً إن غبت عنهم، أما هو فيأخذ مني ما يمكنه أخذه بلا كرامة، وطعناته لي شديدة لأنها تأتي من مسافات قصيرة جداً.

أما (ألكفيريا) فقد أدهشني وأحزنني ما قالته: ليس غريباً أن أكون في العشرين من عمري، وأحتاج الى عكاز يتكأ قلبي عليه، زوجي لديه شهادة عليا في البحوث النفسية والإجتماعية، صحيح أنها تثبت أنه متعلم، لكنها لم تبثت لي أنه يفهمني، حاولت مراراً وتكراراً أن أقول له: الحب لا يكبر بطول المدة فقط، بل بجمال المواقف ولو كانت لحظات قليلة، كان حريصاً على أن يكسر قلبي كل يوم، وبالمقابل كان كل شيء عنه يتشوه من حولي.

استدركت (باكاتا) فقالت: ينظر لي زوجي بإشمئزاز، وتنقلب ملامح وجهي من الإنبساط الى الإنقباض، لحظة أشاهده يعبر الشارع وصولاً الى باب البيت، ويحتم عليَّ أن أقرع جرس الإنذار، كان يشبعني ضرباً ويقول لي خذي أنتِ مجرد سلعة في البيت، تركته لأنعم بفشلي بعيداً عنه، وأشعر أن نجاحي سيبدأ بعد تركي له، وأخشى أن الكلمة التي سينطقها قلبي موجعة جداً، وهي أني لا أريد حتى إبنتي التي أحملها بداخلي لأنها تذكرني به.

 وقالت (أكاف): في بعض البيوت هناك على مائدة العشاء مقعد فارغ، إما لمتوفٍ، أو مريض، أو مسافر، وهذا المقعد في بيتي لزوجته الراحلة، حيث لم تغب عن ناظريه لوهلة، أنا امرأة عادية لكن أنين الإنتظار يقتلني، فمتى يشعر بي؟ أعتقد أن نساءنا تولد للإنتظار وليس للعيش، فهو لا يشعر بمقدار الألم في قلبي، وقالت أختها (ألوي): جوارح زوجي ترتكب المحرمات، وجوانحه تفكر بالحرام، وأسرتي مجرد جسم بلا روح، وكأنها خشب مسندة، لكنها تتنفس عندما يخرج من البيت، وأغلبهم يحمدون الله على خروجه من البيت دون أضرار! أما قلبي فيتحول تدريجياً لحائط من الخيبات، وأدركتُ أن اللامبالاة آخر فصول الوجع في قصتي، فقلبه كورقة خريف جافة، تنتظر الرياح الهابة من إحدى بيوت الهوى!

 بكت (أليفوليا) وقالت: أنا والليل وحيدان ننتظر قدومه، وعند عودته أرى وجهه يحمل الآف الأسرار، وكأن عودته أصعب بكثير من ذهابه، فعاصمة حكاياته مبهمة لدي، ولا أعرف شيئاً عنه لذا أضع حبي له بين قوسين، وبمرور الوقت بات الصمت مريحاً بيننا، لأنه لا يحبذ حسي الفكاهي الأسود!

كانت القاعة مملوءة بالصباريات اللاتي تحدثنَ عن حياتهن، وجمعهن عنوان واحد وهو أن الرجل المتزوج المتكبر، كالخلية السرطانية اذا لم يجد ما يأكله، فسيأكل زوجته وبمختلف الأشكال والوسائل، فنهضت صبارة بكماء من سريرها تدعى (بنت القنصل)، وأسرعت بإخراج ورقة من جيبها شبه الممزق، مكتوب فيها: جرحنا واحد وعدونا واحد! لقد كنتُ أحلم به حد البكاء، لكنه أبكاني بقدر الجنون الذي حلمته!

ضحكتُ كثيراً لكن العيون عبرى والصدور حرى، فقلتُ بصمت: لا أطمح أن أكون أفضل من الأُخريات، بل أطمح أن أكون أفضل من نفسي السابقة، تركتُ قسم الصباريات في دار المسنين، بيدَ أن صبرهنَّ يستدعي هزة أرضية بداخلي، فحملتُ أكواماً من الأمل، وقررتُ كتابة مسودة قانون لحقوق المرأة!

في صباح اليوم التالي إستغربتُ من بعض الناس الذين أعرفهم، وأحببتُ لهم السعادة والخير، وقد إعتقدوا أن لي مقاصد شخصية من وراء تلك الزيارة لدار المسنين، لكني لم أحزن منهم، بل دعوتُ لهم بالشفاء العاجل لا أكثر، فأنا هادئة وبسيطة للغاية، وشعرتُ بحرارة الدمع في قلبي وليس على خدي، ثم أخرجتُ هاتفي المتواضع، وأرسلتُ لجميع الصباريات اللواتي ألتقيتُ بهنَّ رسالة مفادها: (سنشفى عندما نضع الملح على جراحنا القديمة دون أن نتألم)، جاءني رد سريع من بنت القنصل المجنونة، وقد كتبتْ: "الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا" نحن صباريات!

أمل الياسري/ العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق